Tuesday, May 17, 2016

الطاقة .. التحدي الأعظم أمام مصر المستقبل


إيهاب الشيمي
شعرت اليوم بفخر شديد أنه و بالرغم من كل السلبيات التي ننتقدها في أداء الحكومة و بقايا ممارسات حقبة ما قبل الثورة التي تطل برأسها من حين لآخر، فإنه مازال هناك من يستمع لصوت العقل  في مصر التي يظن الكثيرين في أحيانِِ كثيرة أنه لم يعد هناك بها أحد من العقلاء ..
هذا المقال كتبته أثناء  المؤتمر الاقتصادي و أثبت الرئيس اليوم أني كنت على صواب في كل ما ذهبت إليه فيه.

 "أطبخي يا جارية .. كلف يا سيدي"

مقولة شهيرة يتداولها المصريون دائماً كلما ظهرت الحاجة لتنفيذ أمر معين دون وجود الموارد اللازمة ذلك، او هو ما ينطبق تماماً على الوضع الراهن في مصر، و تطلعاتنا جميعاً للنهوض بالاقتصاد الوطني من خلال مشهدين، يتطلب الأول خطط قصيرة و متوسطة الأمد تنفذها الحكومة، بينما يجب في الثاني البدء فوراً في مشاريع تنمية مستدامة تنجح مصر في تسويقها من خلال "مؤتمر دعم و تنمية الاقتصاد المصري" في شرم الشيخ.

الشئ المثير للسخرية هنا هو أن الحكومة في المشهد الأول تقوم بدور "الجارية" التي تطلب سن القوانين و تضع شروط رفع الدعم لتنفيذ الخطط الطموحة لسيدها المتمثل في رئيس الجمهورية بينما تقوم في المشهد الثاني بدور "السيد" الذي يطالبه الجميع من مستثمرين و صناديق تنمية دولية و إقليمية و حكومات صديقة بتوفير كل العوامل التي تضمن تذليل كافة العقبات لهم و نجاح "الطبخة" كما يريد الجميع.

و حين نتكلم عن المكونات اللازمة لنجاح "الطبخة"  فلست أجد في كل مكونات الوصفة التي يزخر بها جدول المؤتمر، أهم من تلك المكونات التي تتعلق بمشاريع توليد الطاقة، فبالرغم من وجود مشاريع في قطاعات الزراعة و السياحة و الصناعة و النقل و الإسكان، إلا أنني أجد أن كل تلك القطاعات لن تحقق النجاح المطلوب سوى بوجود منظومة متكاملة للطاقة تستطيع في البداية تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الاستهلاك المتزايدة، ثم ترتقي لتحقق فائضاً يمكنه تعويض أي نقص ينتج عن أي أعمال صيانة أو فشل في أحدى المحطات، و وصولاً في النهاية لتوفير الطاقة اللازمة لكل تلك المشاريع التي نسوق لها في المؤتمر الاقتصادي، و التي سوف تتطلب في حال التعاقد عليها قدراً هائلاً من الطاقة الكهربية و الوقود لضمان استمرارها دون عائق.

و لا يخفى على أحد أن قطاع الطاقة واجه تحديات مزعجة بلغت ذروتها في الصيف الماضي  و أدت إلى الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي على مستوى الجمهورية، و أدت لخسائر اقتصادية كبيرة, نتيجة للارتفاع الشديد في الطلب و الذي بلغ 28 الف ميجاوات مقارنة بقدرة توليد لا تتجاوز 22 ألف ميجاوات من كافة المحطات الحرارية و الكهرومائية المتواجدة في مصر.
و لكن الشئ الأكثر إزعاجا، هو أن الجزء الأكبر من الكهرباء التي يتم توليدها يتم ابتلاعه في أغراض استهلاكية أو منزلية لا علاقة لها بزيادة أو دعم الاقتصاد الوطني،  و هو ما يفسر انخفاض كفاءة الطاقة مقارنة بالناتج المحلي و التي تبلغ 26,000 وحدة حرارية لكل دولار من إجمالي الناتج المحلي, و هو ما يساوي أربعة أو خمسة أضعاف الوضع في الدول الأوروبية.
و ما يزيد الطين بلة، هو أن الطلب سيتزايد سنوياً طبقاً للمعدلات المعلنة من الجهات الرسمية بقيمة تقارب الخمسة آلاف ميجاوات، و هو ما يعني أننا مطالبون بتوفير استثمارات في مجالات الطاقة بقيمة ستة إلى عشرة مليارات جنيه سنوياً لتفادي حدوث انهيار كارثي يتبعه فشل كل المشاريع التي نسعى للحصول عليها الآن.

و قد يرى البعض أني متشائم أو أن الصورة قاتمة بدرجة لا يمكن معها الهروب من الزجاجة التي نصارع للخروج من عنقها منذ عقود، و لكني لست هنا لأحبط الجميع، بل و لا أرى الأمر بهذه الماساوية التي قد تكون تسربت إلى نفوس البعض هنا، فهناك أسباب كثيرة تدعو للتفاؤل, فمصر طبقاً للدراسات التي أجرتها العديد من المؤسسات و المنظمات الدولية المتخصصة، تمتلك أعلى قدرة على توليد طاقة الرياح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و التي من الممكن أن تبلغ في حال قررنا البدء في استغلالها توليد ما يقرب من 30 ألف ميجاوات و هو ما يزيد عن إجمالي ما نولده من جميع المحطات العاملة حالياً.
كما أن أشعة الشمس المباشرة و نسبة سطوعها في مصر تبلغ أربعة أضعاف نسبة ما تحصل عليه ألمانيا من سطوع الشمس سنوياً، و قد بلغت القدرة التي تم توليدها هناك من الطاقة الشمسية 38 ألف ميجاوات خلال العام الماضي فقط أي ما يزيد بمرة و نصف ما ولدناه نحن من كافة محطات الطاقة في مصر خلال نفس السنة.

يمكنك أيضاً عزيزي القارئ ان تتذكر معي محطة الضبعة النووية، و التي ستضم مفاعلين نويين قدرة كل منهما 1600 ميجاوات و ستقوم بتوفير 3200 ميجاوات بحلول عام 2020، ثم سيتبع ذلك إنشاء ثلاث محطات اخرى ليبلغ عدد المفاعلات الكلي ثمانية مفاعلات بقدرة تتجاوز 15 الف ميجاوات و هو ما يزيد على نصف ما ننتجه حالياً.
أستطيع الآن رؤية تلك الابتسامة الخفيفة على وجهك بعد أن قرأت أسباب تفاؤلي، و كيف أننا يمكن ان نصل إلى 100 الف ميجاوات من الطاقة خلال عشر سنوات فقط، و لكن كل ذلك مرهون بنجاح الحكومة في التالي:
أولاً: استغلال المؤتمر الاقتصادي في جذب مستثمرين و مؤسسات دولية لبناء محطات جديدة لتوليد الكهرباء باستخدام الطاقة الشمسية و طاقة الرياح و الطاقة النووية الآمنة لنبتعد عن الوقوع من جديد في قبضة شركات البترول العالمية، و لنوجه الغاز و مشتقات البترول للقطاعات الصناعية و قطاع النقل بدلاً من استهلاكه بصورة سيئة في محطات الكهرباء.
ثانياً: إصدار التشريعات اللازمة التي تمنح المستثمرين الذين سيقومون ببناء مشاريع توليد الطاقة، حقوق بيع الطاقة الكهربية المتولدة من محطاتهم للحكومة و القطاع الخاص، و هو ما سيكون له أثر إيجابي في توفير أكثر من  خمسين إلى مائة مليار دولار تحتاجها الحكومة لبناء هذه المحطات حتى عام 2025.

يبقى لي في النهاية أن أنصحك عزيزي القارئ أن تركز على ما يهم مصر و ما هو لازم فعلاً لبناء مستقبلها، و ان تتجاهل من فقدوا الهوية الوطنية و لم تعد أبصارهم و قلوبهم ترى من مصر سوى جماعتهم و مرشدهم و مشروعهم الإقصائي و شرعيتهم المزعومة، والذين كانوا يتمنون و بشدة أن يجد السيسي نفسه وحيداً في قاعة المؤتمر دون أن يلبي دعوته أحد ممن دعاهم، و ليفقد بالتالي الشرعية التي يدعون أحقيتهم وحدهم في امتلاكها، و ليمكنهم الترويج لأكذوبتهم، التي لا يصدقها سواهم، أن الرجل يدير نظاما معزولاً، و يفتقد الرؤية و الهدف، و كأن شرعية السيسي و صواب اختيار المصريين في الإطاحة بهم مرهنان بنجاح المؤتمر من عدمه، متناسين بذلك كيف أن مرسيهم ظل عاماً كاملاً غير مهتم سوى بتعديل القوانين و إصدار الإعلانات الدستورية، التي لا تقدم شئ لمستقبل مصر سوى سيطرة جماعته و من هم وراءها على مقدرات مصر و شعبها.

سنثبت لأنفسنا أولاً قبل هؤلاء أننا اتخذنا القرار الأكثر صواباً في تاريخ هذه الأمة العظيمة، و ستنجح مصر و أبناءها من خلال المؤتمر الإقتصادي أو سواه في هزيمة كل التحديات كما فعلت طوال تاريخها، لترتقي للمرتبة التي تستحقها وسط دول العالم، و على هؤلاء ان يختاروا بين الانضمام لمسيرة التنمية و البناء، أو أن يظلوا عائقاً سيتم حتماً تحطيمه في طريقنا لتحقيق حلم "مصر المستقبل".

رابط المقال على روزاليوسف المصرية

Saturday, May 7, 2016

الازدواجية .. مصيبة أمة !

إيهاب الشيمي



السادسة صباحاً في القاهرة..

أحد أيام الأسبوع الأخير من شهر إبريل، و مازالت برودة الجو تجبر الجميع على احترامها بالرغم من مرور موعد رحيلها منذ فترة طويلة، بينما الأفق يبدو من بعيد ملبداً بالكثير من الشوائب و الضباب اللذان ينبئان بيوم حار، في تناقض غريب لم يعتد عليه المصريون في مثل هذا الوقت من العام، و الذي لا ينازعه سوى التناقض الرهيب بين خلو الطريق من شاغليه تقريباً في هذه الساعة، و بين الازدحام الشديد الذي سيعصف بكل شبر منه خلال الدقائق التالية !

 

خلال أقل من ساعة قطعت الرحلة من ضاحية الهرم التي أسكن بها وصولاً إلى لتجمع الخامس حيث مقر عملي، و اقتربت بسيارتي من مرآب (جراج) المبنى الذي أعمل به .. و توقفت للحظات حتى يمكن لأحد الكلاب المدربة تفحص جوانب سيارتي قبل أن أستطيع الدخول لأستمع لصوت شجار كسر حاجز الصمت الذي يلف المكان.

كان الصوت واضحاً جداً لدرجة تمكني من تمييز العديد من الألفاظ التي لم أتخيل يوماً أن أستمع إليها في مكان " أكل عيش " .. حين وصلت لمكان الشجار، وجدته بين اثنين من عمال النظافة المكلفين بالعناية بالمكان قبل وصول الموظفين، و حاولت جاهداً بالسلوك المصري المعهود أن أخفف حدة التوتر بينهما دون جدوى، بينما تطاير من حولي رذاذ أفواههم المعطر باقذع الألفاظ و كل منهما يحاول إلقاء اللوم على الآخر بالتقصير.

 

وسط لهيب المعركة انطلق فجأة صوت ملائكي لأحد الأدعية الدينية و كأنه يعلن نهاية الشجار، و لم أستطع سوى أن أقف متسمراً  في مكاني من شدة الدهشة بينما يخرج أحدهم هاتفه المحمول من جيبه و هو مازال يردد نغمة الدعاء ليرد بصوت هادئ قائلاً : " سلام عليكم .. انت رحت فين امبارح بعد صلاة العشا يا حاج أحمد "

 

انسحبت قدماي دون أن أشعر من المكان و توجهتا بي إلى بهو المصعد في طريقي إلى مكتبي، و ظللت طوال المسافة من هناك و حتى ألقيت بجسدي على مقعدي، أحاول تفهم تلك الازدواجية الغريبة في شخصية ذلك الرجل التي اجتمعت فيها العصبية و الشجار و الاستماتة في التنصل من مسئولية التقصير مع كل تلك الرقة التي تعكسها نغمة الدعاء و كل ذلك الهدوء في أسلوب الرد على الهاتف، بل و كل تلك الروحانية التي تعكسها حقيقة  أن الرجل من المواظبين على صلاة العشاء !

 

لم أستطع طوال ذلك اليوم أن امنع عقلي من عرض شريط طويل داخل رأسي لأحداث كثيرة عايشتها منذ زمن طويل و حتى اليوم، و لم يكن عنوان ذلك الشريط سوى .. "الإزدواجية " !

 

بدأ الشريط منذ طفولتي حين كنت أتابع أحد المقربين من عائلتنا، و الذي أنعم الله عليه بالعلم و سلامة المنطق، و لكنه في الوقت ذاته لم يستطع التغلب على ذلك الموروث الشرقي القبيح الذي يفضل أن يهبنا الله الذكور عن أن يهبنا الإناث، ليصر الرجل على الاستمرار في الانجاب على مدى عشرين عاماً دون أن يرزقه الله بمولود ذكر، و كأن شخصيتان مختلفتان تماماً تسكنان جسد الرجل !

 

و استمر الشريط ليعرض لي كيف كانت أمي تتباهى بأبيها و أعمامها الذين حصلوا على شهادات البكالوريا و الشهادات العليا من كلية التجارة و الحقوق في بدايات القرن الماضي ليشغل بعضهم مناصب مرموقة كضباط في الحرس الملكي و محامين يشار إليهم بالبنان في مهنتهم و مساعدين لوزير المالية، بينما ظلت هي في المقابل و في ازدواجية غريبة تصر على أن " كليات القمة " هي السبيل الوحيد لتحصل على مكان متميز في المجتمع، و أن أكون أنا و أخي بين خيارين لا ثالث لهما .. كلية الهندسة أو كلية الطب !

 

ثم انتقل بي عقلي في مشهد آخر للجامعة، حين مارسنا جميعاً تلك الازدواجية الشهيرة التي نصبنا فيها ذلك الشاب، ذو العلاقات المتعددة مع فتيات الجامعة، أيقونة يتطلع إليها الجميع، و يتباهى هو نفسه بذاته و بما يفعله كلما سنحت له الفرصة لذلك، بينما نرمق بنظرة دونية كل الفتيات اللاتي يرافقنه و نصفهن بقلة الحياء و الانحلال بل و العهر في بعض الأحيان، و كأن الشاب فقط هو من له الحق في ممارسة حرية مصادقة الجنس الاخر !

 

و لم يستطع عقلي بالتأكيد إغفال مشهد الازدواجية التي تمليها الخسة و المصلحة الشخصية، و المكاسب الآنية على حساب مصلحة الوطن، فأخذني في جولة سريعة مر بها على جماعة الإخوان المسلمين الذين طالما تغنوا بأناشيد تحرير القدس، و تفاخروا بعلاقتهم باغتيال الرئيس السادات لخيانته – كما يدعون – لأمته و دينه بعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، بينما كان ممثلهم مرسي في الاتحادية يؤكد في أول بياناته على احترامه لتلك الاتفاقية، بل و وصل الأمر به أن وصف شيمون بيريز بالصديق العزيز في إحدى رسائله إليه فور توليه السلطة !

بل و تعدى الأمر ذلك ليشمل وصفهم جيش مصر العظيم بالكفر و الخيانة و وصمه بالردة عن الإسلام و لما يقوم به من تطهير بؤر الإرهاب في سيناء لحماية أمن مصر القومي، بينما يغضون النظر عن استهداف خليفتهم أردوغان لقرى الأكراد داخل تركيا، و لمدن الأكراد في شمال سوريا و العراق و قتله للمدنيين الأبرياء، لا لشئ إلا لتسوية حساباته السياسية مع الأحزاب الكردية في البرلمان التركي .. ذلك البرلمان الذي يسعى لنزع كل صلاحياته ليمنحها لنفسه و يحول تركيا إلى نظام رئاسي تحت سيطرته هو فقط !

 

و ها هم من هللوا لمذيع أو صحفي أو إعلامي بعينه، و نصبوه إلها للنزاهة و الوطنية في مرحلة معينة من مراحل المد و الجزر الثوريين طوال السنوات الأربع الماضية، يعودون الآن ليصموا نفس الرجل بالخيانة و العمالة و كونه أداة لتنفيذ مخططات استعمارية و رأسمالية يفترضون سعيها للانقضاض على مقدرات الوطن و رغبتها في تدمير قيادته التي يلتف الشعب حولها !

 

بل و ها هم الصحفيين أنفسهم يمارسون نفس الازدواجية الغريبة، فبينما عكفوا لعقود على كشف أحداث و مواقف احتمى خلالها بعض نواب الشعب خلف حصانتهم البرلمانية ليخرقوا كل ما يمكنهم خرقه من قوانين، جاء نقيبهم الحالي ليمنح من خرق القانون حق اللجوء إلى مقر نقابة الصحفيين بالقاهرة، بل و يرفض تنفيذ رجال الشرطة لأمر النيابة العامة بحجة حصانة الصحافة التي ضمنها الدستور، بينما تناسى أن تلك الحصانة مرهونة باحترام أحكام القضاء الذي طالب هو نفسه به في عام 2011 حين صدر حكم حل مجلس النقابة، ليتمكن هو من ترشيح نفسه نقيباً لها !

 

و من السهولة بمكان الآن لك عزيزي القارئ أن تستنتج محتوى المزيد من مشاهد الازدواجية التي عرضها عقلي المزعج داخل رأسي طوال ذلك اليوم ..

 

فها هو مشهد بعض شيوخ الأزهر و هم يصرون على عدم إمكانية تكفير داعش بالرغم من جرائمهم و وحشيتهم و تكفيرهم لعموم الأمة، لأن الدين الإسلامي وضع ضوابط صارمة لتقرير خروج مسلم من الملة و استحقاقه إقامة الحد عليه، بينما نجد نفس الشيوخ و في ازدواجية غريبة يصرحون أن منكر الحجاب و هو عالم بفرضيته كافر كافر كافر !

 

و ها هو مشهد آخر لمن ينادون بحرية المعتقد و حرية الرأي و حرية الفكر ممن يرون عدم فرضية الحجاب، ينظمون و في إزدواجية غريبة، مظاهرات لخلع الحجاب و كأنهم يمنحون أنفسهم حق عدم الإيمان بفرضيته، و ينفون في الوقت ذاته عن غيرهم الحق في الإيمان به !

 

ثم عرج بي عقلي على رفاق الدرب الثوري الذين جمعتني بهم آمال و أحلام يناير، و خرجنا سوياً من أجل مستقبل أفضل لوطن علمنا أنه أعظم بكثير مما صوره لنا نظام مبارك، و من أجل غد علمنا أنه يمكن أن يكون أكثر إشراقاً لو تم إزاحة تلك الغمامة من القمع و كبت الحريات و الفساد و المحسوبية.

 

و لم تكن الازدواجية في ذلك المشهد إلا ازدواجية الحرية و الاستبداد و المرتبطة بحقيقة أن رفاقي و إن لم و لن يساورني شك في وطنيتهم و نقائهم، إلا أنهم و بالرغم من خروجهم من أجل إعلا قيم المساواة و حرية الرأي و عدم الإقصاء، إلا أنهم مارسوا كل ما يناقض ذلك من افتراض رجاحة منطقهم على كل ما سواه، و رغبتهم في إقصاء كل من هو دونهم من الجماعات السياسية الأخرى، و الاحزاب القائمة و الوليدة،  بل و إقصاء من هم ليسوا مسيسين من الأساس بحجة أن كل هؤلاء لم يشاركوا في معركة التغيير، و بالتالي لا يستحقون تمثيل الشعب، حتى وصل ببعضهم الأمر في الثلاثين من يونيو أن رفض وجود من وصفوهم بالفلول وسط حشود الثائرين على فاشية الإخوان و عمالتهم، و كأن الوطن قد تم احتكاره لمن ثار في يناير فقط !

 

و لم يستطع عقلي أيضاً إلا أن يمر على نوع آخر من الازدواجية التي يعاني منها الكثيرون الآن و بدرجة كبيرة، حتى وصل الأمر بهم من شدة التشويش و التناقض أن أصبحت هذه الازدواجية سلوكاً و إدراكاً و وعياً لا يخدم شيئاً سوى الوقوف بعجلة تقدم الوطن وسط  صحراء التخوين و العمالة.

 

فعلى الرغم من تأكيد الملايين، ممن انضموا لحركة المد الثوري في يونيو، بين كل لحظة و أخرى أن ضباط و أفراد الشرطة هم من نسيج الشعب المصري و أنه علينا مساندتهم في حربهم الضروس ضد الإرهاب، إلا أن هؤلاء في الوقت ذاته يمارسون نفس الازدواجية الغريبة التي سبقها إليهم شباب ثورة يناير، فبدأوا بمنح العصمة لكل من ينتمي لأجهزة الأمن و مهاجمة كل من ينتقد أدائهم من أجل الإصلاح، ليساووه بمن يشوههم من أجل تدمير الوطن، و وصموا بالخيانة كل من حاول الإشارة للبقع الضئيلة من الانتهاكات و الفساد التي تشوب الثوب الأبيض لتضحيات رجال الأمن، مستبقين بذلك أي تحليل منطقي أو أي تحقيق رسمي، بل و متناقضين مع أنفسهم حين أكدوا أن أفراد الأمن من نسيج هذا الشعب، و هو ما يحتمل بالتبعية إمكانية أن يحيد بعضهم عن الصواب، و ضرورة عقابه إذا ثبت ذلك، حتى لا يشوه فساده تضحيات الغالبية من الرجال المخلصين الذين وهبوا و يهبون أرواحهم يومياً للوطن.

    

و لن أستطيع هنا أن أستبعد تناول الإشقاء في الخليج لمسألة الثورات العربية، فهم يساندون و بقوة المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد الدموي، بينما يملأ كل منهم حساباتهم على صفحات التواصل الاجتماعي بصور المقارنة بين حال المدن العربية قبل و بعد الثورة مقرونة بكل أنواع اللعنات و مفردات السباب بحق ثورات الربيع العربي !

و ذلك التناقض الغريب بين التأكيد على أن جيش الفتح المناوئ لنظام الاسد هو أحد فصائل المعارضة المعتدلة، بينما يضم تحالفه جبهة نصرة أهل الشام التابعة لتنظيم القاعدة، و التي تقصف طائرات التحالف العربي قواعده و معسكراته في اليمن باعتباره تنظيماً إرهابياً !

 

و ها هو مشهد آخر تقوم أنت ببطولته عزيزي القارئ و أنت تلعن الواسطة و المحسوبية التي اقتطعت من حقوقك المشروعة لصالح آخرين، بينما تبحث و أنت في طريقك لتلك المصلحة الحكومية عمن يمكن أن يساعدك في تخطي دور مواطنين آخرين لتحصل على مميزات إضافية دون وجه حق !

 

مازال عقلي يعرض الكثير من المشاهد، و لكني لم أعد أقوى على المتابعة، فيقيني أن تقدم هذا الوطن لن يتأتى ببحثي عن تناقضات و ازدواجية الآخرين، بل بأن أبدأ في القضاء عليهما داخل نفسي أولاً ..

و حين تنجح أنت في ذلك عزيزي القارئ، فاعلم أن آخرون سينجحون كذلك، و أن مصر، بل و أمتنا العربية بأسرها، ستكون أكثر فخراً بأبناءها.

 

رابط المقال الأصلي على روزاليوسف المصرية بتاريخ مايو 2015