Friday, June 30, 2017

مصر..بين إدارة الفقر و تنمية الموارد !

 
إيهاب الشيمي
 
لا يستطيع أحد ممن يقرأون هذه السطور أن ينكر أن معظم الأحاديث الخاصة بين أفراد الأسرة في البيوت المصرية، أو بين الأصدقاء على المقاهي، أو بين العمال في فترات الراحة في المصانع، بل و بين من جمعهم القدر على غير ميعاد دون سابق معرفة في وسائل المواصلات تدور الآن عن ارتفاع أسعار السلع و الخدمات يوماً بعد الآخر و كأن هناك سباقاً محموماً فيما بينها للوصول لقمة الجبل التي لا يستطيع أحد من هؤلاء حين يصل إليها أن يجد في جيوبه ما يمكن أن يكفيه للحصول عليها !

 و لن أخفيكم سراً حين أقول أن تلك الأحاديث لا تدور في فلك الطبقات الفقيرة و الأكثر فقراً ممن دأبت الحكومات المتعاقبة على وصفهم بمحدوي الدخل الذين يجب أن يحظوا بالقدر الأوفر من الرعاية و الدعم، بل إن الأمر تخطى هؤلاء ليطال الطبقات المتوسطة و المرتفعة الدخل نسبياً ليهدد جودة الحياة التي اعتادوا عليها أو التي حرصوا على أن يوفروها لأبنائهم من جودة التعليم و العلاج و الغذاء.

 و لن أخوض هنا في تفاصيل المعاناة النفسية و المالية التي يعانيها كل فرد من هؤلاء، فالتفاصيل ليست بالأمر المهم طالما ظلت الخطوط العريضة و تأثيراتها و تبعاتها تقترب من التطابق لديهم جميعاً، و الأمر بكل همومه يطال الجميع و منهم كاتب هذه السطور. و لكن ما يهمني هنا هو تلك التفصيلة الثابتة في كل هذه الأحاديث، و التي تتمثل في استغلال كل من يريد العبث باستقرار مصر ممن ينتمون للإخوان المسلمين تنظيمياً أو أيديولوجياً، أو يعارضون ثورة الثلاثين من يونيو سياسياً، أو كارهي المؤسسة العسكرية المصرية، و بالطبع المتعاطفين مع نظامي مبارك و مرسي لهذا الاحتقان و السخط الشعبي.
 
و يمكنك عزيزي القارئ أن ترى علامات ذلك الاستغلال من خلال عدة جمل نمطية يكررها كل هؤلاء مثل: " شفت السيسي عمل إيه في البلد ؟ الناس خلاص مش لاقية تاكل " ..  و " الجيش خلاص خربها !" .. و " ما كانش عاجبكم أيام مرسي لما كان الدولار بستة جنيه ! اشربوا بقى دولار السيسي أبو 18 جنيه " .. و أيضاً " فين أيام مبارك لما كانت العشرين جنيه بتكفي الواحد أسبوع !"

 لا أستطيع أن أمنع نفسي من الابتسام بخبث هنا، فأنا أعلم أن الكثيرين ممن ينتمون لهؤلاء قد امتنعوا الآن عن استكمال قراءة مقالي هذا .. و لكني سأكتفي بك وحدك عزيزي القارئ لأطلعك على بعض الخطوط العريضة لأسباب ما تمر به البلاد الآن !

فأسباب ارتفاع الأسعار يمكن حصرها في رأيي المتواضع في ثلاثة أسباب رئيسية :

.. جشع التجار و غياب الرقابة الحكومية
.. التقليص التدريجي لدعم الوقود و الطاقة و زيادة الرسوم على الواردات
.. انخفاض قيمة العملة المحلية و تراجع احتياطي النقد الأجنبي

 و لن أخوض في تفاصيل النقطة الأولى لأنها ببساطة لا تخفى عليك، فأنت غالباً تعرف هؤلاء التجار شخصياً، كما أنك تطالع وجوه رئيس و أعضاء الحكومة يومياً على شاشات التليفزيون و في صدر صفحات الجرائد و تبتسم في سخرية كلما استمعت لقراراتهم حول تشديد االرقابة و استحداث العقوبات بالتنسيق مع الغرف التجارية المختلفة، تلك القرارات التي تعلم جيداً أن مصيرها هو أدراج أرشيف الوزارة لتعلوها الأتربة حتى يلتهمها حريق مجهول الأسباب في النهاية !

 و لكني سأركز هنا على النقطتين الأخرتين و سأبدأ بتأثير الدعم على ارتفاع السعار و غلاء المعيشة ..

فلو أنك ممن تجاوزوا الثلاثين من العمر فسيمكنك بسهولة أن تسترجع تلك الصورة المثيرة للسخرية التي كنا نشاهدها على شاشة التليفزيون الرسمي في عيد العمال، حين كان يصرخ أحد القابعين في الصفوف الخلفية هاتفاً: " المنحة يا ريس" .. ثم يرد آخر من الجهة المقابلة: " العلاوة يا ريس" و هنا يبتسم ذلك الأخير موجهاً كلامه لرئيس الحكومة قائلاً: " عايزينك تزود العلاوة حبتين السنة دي .. قول للحكومة تفك الكيس شوية !"  لينفجر الجميع في الضحك ثم يتعالى التصفيق و الهتاف بحياة الرئيس !

ذلك المشهد الذي يبدو في ظاهره انحياز الرئيس للطبقة الكادحة و محدودي الدخل، بينما في الحقيقة يبطن في طياته أسباب الواقع الأليم الذي نعيشه الان جميعاً !

 فنظام مبارك خدع الجميع ببقاء الأسعار عند مستويات ثابتة تقريباً، أو دعني أكون أكثر تحديداً بقولي أنه أبقاها عند مستويات تمكنه من تجنب الغضب الشعبي لأكبر فترة ممكنة.

فلقد اعتمد مبارك على الزيادة المستمرة للأجور عاماً بعد الاخر، و الإعلان عن وظائف حكومية لا حاجة لها سنوياً، و توفير مخصصات هائلة لدعم مشتقات الوقود من الغاز و المازوت و البنزين و كذلك دعم الكهرباء و هو ما مثل عبئاً كبيراً على الموازنة العامة للدولة.
و يمكنني أن أذكر لك مثالاً واحداً و هو أن سعر اسطوانة البوتاجاز ظل جنيهان و نصف فقط لمدة 20 عاماً منذ 1991 و حتى سقوط الرجل في عام 2011 و هو ما لا يمكن تبريره أو تخيله تحت أي بند سوى شراء رضا الشعب على حساب انهيار الاقتصاد الوطني !

و ما زاد الطين بلة، أن ما تكلفته الدولة هنا لم يتم توجيهه إلى مستحقيه، بل استفاد منه أباطرة صناعة الحديد و الإسمنت و السيراميك الذين حصلوا على الوقود و الطاقة بالسعر المدعوم بينما باعوا منتجاتهم بالأسعار العالمية ليحتفظوا بالفارق في خزائنهم، و ليزيد نفوذهم، و يزيد بالتالي نفوذ و سطوة الحزب الحاكم الذي مثلوا رموزه و قياداته العليا !
 
و هكذا يمكنك بسهولة عزيزي القارئ تبين الحقيقة المؤلمة، و الإجابة عن السؤال الأكثر إثارة للحيرة بين الجميع: " هو مبارك كان مدورها إزاي ؟!" .. فالرجل لم يفعل شيئاً سوى توجيه معظم بنود النفقات في الموازنة العامة نحو تخدير الشعب و ضمان تجنب سخطه و غضبه و ذلك بالعمل على الزيادة الدورية للأجور، و خلق فرص عمل وهمية لا تساهم بأي شكل في زيادة الانتاجية، و العمل كذلك على زيادة الدعم الذي يلتهمه في النهاية رجاله المقربين أو من يشبهونهم من "حيتان السوق" كما يحب البعض أن يطلق عليهم، ممن أدمنوا التحايل على القانون لتمرير الدعم لصالحهم كما حدث مؤخراً في قضية صوامع القمح، و هو ما يفعله مئات غيرهم في سلع و مواد أخرى ، بدايةً من المواد التموينية، و نهايةً بلبن الأطفال الذي يستولي عليه موزعي الأدوية بالسعر المدعم ليبيعوه بأضعاف ذلك السعر في الصيدليات الأهلية !
 
و لكي تتخيل حجم الكارثة، و أثر ذلك التخدير للشعب و كيف أدى بنا لما نعانيه اليوم، فحجم الموازنة العامة بالكامل لعام 2017-2016 هو 975 مليار جنيه، منها 230 مليار جنيه يتم توجيهها لأجور الوظائف الحكومية التي خلقها نظام مبارك بلا داعي لضمان شراء ود الشعب، و منها أيضاً 210 مليار جنيه موجهة للدعم السلعي و دعم الوقود و الكهرباء، بينما نقوم بدفع فوائد الديون التي تراكمت بسبب ذلك التخدير بما قيمته 290 مليار !أي أن تداعيات ما فعله مبارك لضمان بقاء نظامه تتجاوز ما قيمته 730 مليار جنيه و هو ما يفوق كل إيرادات الحكومة في الموازنة العامة و البالغة 670 مليار جنيه فقط !

و لكي تتصور مدى الحاجة لإعادة هيكلة و تقليص ذلك الدعم بصورة فورية فعليك أن تتذكر أن هذا الرقم كان محتسباً بناءاً على قيمة الجنيه قبل تحرير سعر الصرف، و هو ما يعني أن ما قيمته 500 مليار جنيه من الدعم و فوائد القروض سوف ترتفع لتصل ما قيمته تريليون جنيه، و هو ما يعني انهيار الاقتصاد المصري بالكامل !
 
و يمكنك أيضاً أن تكتشف كيف أن عشرات المليارات المهدرة كان يمكنها أن تنشئ بنية تحتية ضخمة تشمل محطات لتوليد الكهرباء، و شبكات طرق، و موانئ ضخمة، تسهم في فتح آفاق جديدة للاستثمار في مصر، و تعمل على خلق وظائف و فرص عمل حقيقية للجميع تضاعف من الناتج القومي، تجذب المزيد من المستثمرين الرئيسيين من أطراف العالم، و تزيد من موارد العملة الصعبة، و ترفع بالتالي من قيمة احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي .. و لكنه للأسف ما لم يحدث على الإطلاق، و هو ما نحاول الآن أن نتداركه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه !
و لك أن تعلم هنا أن تكلفة إعادة بناء الشبكة القومية للطاقة خلال العامين الماضيين فقط بلغت 515 مليار جنيه، لا أعلم كيف تم توفيرها حتى الآن، و لا يريد الخبثاء ان يلقوا الضوء عليها !

 و كنتيجة لكل ذلك الفساد، و تلك الإدارة الفوضوية لموارد و اقتصاد البلاد، و غياب بنية تحتية حقيقية تسمح بإنشاء قاعدة صناعية تتيح لنا التصدير و الاحتفاظ بقيمة مقبولة و عادلة للعملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، ظلت مصر رهينة الاعتماد على السياحة و قناة السويس كمصدرين أساسيين للنقد الأجنبي، بالإضافة بالطبع لتحويلات المصريين العاملين بالخارج. و أصبح من السهل على أية قوة خارجية تريد العبث باستقرار مصر الاقتصادي و الاجتماعي أن تصل لمبتغاها بتمويل تنظيمات إرهابية و مؤسسات سياسية و مجتمعية تنفذ مخططاتها، بل و افتعال حوادث و اتخاذ إجراءات عقابية ضد مصر تقوض من قدرتها الاقتصادية و التنافسية.

 و لكي أبسط لك الأمور، فقيمة العملة الوطنية و قوتها و ثباتها تعتمد بشكل أساسي على الطلب على هذه العملة، أو بمعنى آخر على المنتجات و الخدمات التي توفرها الدولة التي تتعامل بهذه العملة للأسواق العالمية، فالأمر يشبه تماماً السلعة المعروضة في الأسواق، فإذا كان الطلب عليها ثابتاً و متزايداً، احتفظت بقيمتها النسبية أمام السلع الأخرى، و إذا لم يكن لها حاجة، تدهورت قيمتها بشكل متسارع. و طالما لا نستطيع لأسباب عدة أن نقدم للعالم ما يحتاجه، فلا تنتظر في المقابل إلا أن تتراجع قيمة عملتك المحلية.

 و لمزيد من تبسيط الأمور أيضاً، فدعنا نفترض أن احتياطي النقد الأجنبي موضوع بصندوق مقسم لجزئين رئيسيين، جزء لا يمكن المساس به و هو الخاص بسداد أقساط الديون الخارجية المستحقة للدائنين، و جزء آخر يتم استخدامه لسد الطلب على النقد الأجنبي سواء من جانب الحكومة لتوفير التمويل اللازم لاستيراد السلع الأساسية، أو للبنوك العاملة في مصر التي تقوم بدورها بتوفيره للمستثمرين و المستوردين في صورة ضمانات أو تحويلات تمكنهم من إتمام صفقاتهم التجارية و الصناعية اللازمة لدفع عجلة الاقتصاد، و بالطبع للأفراد العاديين الذين يحتاجون للنقد الأجنبي أثناء سفرهم خارج البلاد للعمل أو للسياحة أو حتى لأداء شعائرهم الدينية.

 و تخيل معي عزيزي القارئ أن ذلك الصندوق لا يتم تزويده بأي مبالغ تعويضاً عن تلك التي تتناقص تدريجياً من الجزء الأول المخصص لأقساط الديون الخارجية، كما أنه و في إطار غياب مناخ إستثماري حقيقي نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة في وضع خطوط عريضة له، و فشل محافظي البنك المركزي في وضع سياسات تضمن مصالح المستثمرين، و تحفز الآخرين على الدخول في السوق المصرية، فإن  تراجع الصادرات و ما يرافقها من تراجع الدخل السياحي، و تراجع حركة الاقتصاد العالمية و بالتالي حجم الحركة في قناة السويس، تعمل جميعاً على أن يتناقص الجزء الآخر بسرعة شديدة دون أمل قريب في التعويض، خاصةً في ظل توجيه جزء كبير منه لسلع استهلاكية مثل الهواتف المحمولة و السيارات الفارهة و الأجهزة الاليكترونية التي مازال المصريون يصرون على اقتناء الأحدث منها، و ليذهب الاحتياطي النقدي إلى الجحيم !

 و يمكنك أيضاً هنا استنتاج سبب تجاوز فارق السعر بين السعر الرسمي و غير الرسمي للدولار لأكثر من 50%  خلال المرحلة التي سبقت تحرير سعر الصرف، فالبنك المركزي كان مضطراً حتماً أن يعوض تناقص الجزء الأول من الجزء الثاني من الصندوق، و مع تناقص المتوافر بالجزء الثاني بشكل متسارع، فلن يمكن للبنك المركزي إعطاء القدر الكافي من العملة الأجنبية للبنوك المحلية، و بالتالي لا يمكن للمستفيدين من الجزء الثاني من الصندوق الحصول على احتياجاتهم لاستمرار أعمالهم، و هو ما سيدفعهم للبحث عن النقد الأجنبي في " السوق السوداء"، و التي يستغل تجارها الأمر لفرض ما يريدون من فارق في السعر.

 و هكذا يمكنك أيضاً عزيزي القارئ أن تتوقع أن الأمر في النهاية كان سيصل بنا إلى فراغ الصندوق تماماً لنجد أنفسنا عاجزين عن سداد التزاماتنا الدولية، و عاجزين أيضاً عن استيراد السلع الأساسية و مستلزمات الإنتاج لينهار كل شئ !

 و بالتالي أصبح من الحتمي على الحكومة البحث عن مصدر يعوض و بشكل سريع ذلك التناقص الكارثي في احتياطيات النقد الأجنبي، و للأسف فإن ذلك الحل لم يكن سوى العودة للاقتراض من صندوق النقد  الدولي و المؤسسات المالية الإقليمية مثل البنك الإفريقي، أو من خلال طرح سندات خزانة دولارية متوسطة الأجل.

و لن أخوض في جدلية صلاحية ذلك الحل من عدمه، أو في حقيقة فرض صندوق النقد الدولي شروطاً لضمان قدرة الحكومة على السداد للدول الأعضاء من عدمه أيضاً، فالأمر لن يقدم أو يؤخر طالما انتهت المفاوضات و حصلنا بالفعل على الدفعة الأولى من القرض ..

 و لن أدعي أيضاً كوني خبيراً استراتيجياً إقتصادياً كأولئك الذين يطالعونا على شاشات الفضائيات، و لكني سأوجز هنا ما اتفق عليه معظم الخبراء في هذا الشأن، فالحكومة مطالبة بتنفيذ الإجراءات الاقتصادية التالية لضمان قدرتها على سداد القرض لصندوق النقد الدولي، و بالتالي موافقة مجلسه التنفيذي على منحها ذلك القرض:

•  خفض فاتورة أجور موظفي الحكومة إلى 7,5% من الناتج المحلي وذلك من خلال التطبيق الصحيح لقانون الخدمة المدنية

•  زيادة مساهمة ضريبة الشركات والمبيعات إلى 6,7% من الناتج المحلي بحلول عام 2018، وذلك من خلال تطبيق قانون القيمة المضافة

•  خفض دعم الطاقة من 6,6% إلى 3,3% من خلال :
- زيادة متوسط تعريفة الكهرباء
- تفعيل قانون الكهرباء والطاقة بحلول عام 2018
- تحقيق فائض في الطاقة الكهربائية قدره 1000 ميجاوات خلال 3 سنوات.
• زيادة مشاركة القطاع الخاص في مشروعات الطاقة المتجددة إلى 1500 ميجاوات نهاية 2018

•  تخفيض تعريفة المرور لجذب الناقلات العملاقة و الاستفادة من تطوير المجرى الملاحي لقناة السويس
•  شراء الذهب  لتعظيم موارد البنك المركزي لمواجهة عدم استقرار الدولار

 و لكن ما أود أن أؤكد عليه هنا، هو أن كل تلك الإجراءات الاقتصادية لن تكون سوى حزمة جديدة من الأعباء على كاهل الأجيال الحالية، ما لم تلتزم الحكومة و من قبلها الرئيس الذي قام باختيارها و البرلمان الذي منحها الثقة بفرض إجراءات إصلاحية إدارية و تشريعية و تنفيذية تستهدف الفساد داخل أروقة الحكومة بشكل أساسي، جنباً إلى جنب مع الإجراءات الاقتصادية التقشفية و إعادة هيكلة الدعم، فلا يمكن أن يكون الشعب دائماً هو ضحية محاولات انقاذ الاقتصاد.

و لا بد أن تشمل هذه الإجراءات ما يلي:

•  وضع إطار مؤسسى لمنع الاحتكار و منع المضاربة في الأسعار.
•  أن تلعب القيادة السياسية دورا حاسما فى مكافحة الفساد، وضمان اتخاذ إجراءات مناسبة عند الحاجة
•  تعزيز الشفافية واعتماد معايير دولية فى الشفافية الضريبية والمالية.
•  تعزيز سيادة القانون والملاحقة القانونية الفعالة، وتعيين مؤسسات متخصصة لمواجهة الفساد مع إطار فعال لمكافحة غسل الأموال للحد من عائدات الفساد.
•  تنظيم وتبسيط اختصاصات الموظفين العموميين و الحد من سلطاتهم التقديرية التي تمكنهم من تجاوز القانون و طلب الرشى و تعطيل تدفق الاستثمارات.
•  وضع حوافر مناسبة للسلوك الجيد و ضمان أجور وإجراءات فعالة تضمن عدم مساواة العاطل بالباطل، و تحفز الجميع على الأداء من أجل مصلحة الوطن.

 و طالما التزمت الحكومة و الرئيس و البرلمان بكافة جوانب الإصلاح الاقتصادي و التشريعي و التنفيذي و ليس فقط بفرض المزيد من الضرائب و تقليص الدعم، و فرض المزيد من القيود على التعامل في النقد الأجنبي، فلن يكون لدي من خيار سوى تأييدهم جميعاً ..

و حتى يتحقق ذلك الأمر فعلى الرئيس و الحكومة  أن يتقبلوا النقد بل و الهجوم من أصحاب المصالح الخفية و من المتضررين من محدودي الدخل، طالما ظل القائمين على الأمور لا يملكون الرغبة في التواصل مع الشعب، و على من هم على شاكلتي ممن يقتنعون بأهمية و حتمية الإصلاح و إعادة هيكلة الدعم أن يتحملوا عبء التواصل مع الجميع لبيان كيف أن ما يحدث من ألم و معاناة هو دائماً من أجل غد أفضل !
 
حمى الله مصر.

Thursday, June 29, 2017

يونيو .. ضرورات المرحلة و نقطة اللاعودة !



إيهاب الشيمي:

على مدى ثلاثة أعوام و نصف منذ قيام الثورة في يناير 2011 و حتى يونيو 2014، لم تمر مصر و شعبها بكل هذا الجدل حول هوية من يستحق أن يقبض على عصا قيادة الوطن وسط كل تلك السماوات الملبدة بالغيوم القاتمة التي لم تمثل صواعقها التي تضرب بين الفينة و الأخرى خطراً عليها، بقدر ما مثله خطر جبال الريبة و الشك و الخوف و انعدام الثقة التي تختفي خلف تلك الغيوم، و التي تهدد بسقوط الجميع في هاوية سحيقة حال الارتطام بها و تحولها من مجرد مخاوف في أذهانهم إلى حقيقة واقعة تعود بالجميع إلى حقبة ما قبل الخامس و العشرين من يناير !

و حين أذكر مصر و شعبها، فأنا لا أستثني منه أحدا، فالكل حينها كان مشمولاً بحالة الجدل و الانقسام في الرأي الذي وصل في بعض الأحيان لاتهام البعض للآخر إما بخيانة الثورة، أو في المقابل بخيانة الوطن.

كانت يونيو هي تلك اللحظة الفارقة و الخطوة الكبيرة التي لا بد أن يخطوها الشعب المصري على طريق استكماله لثورته الحقيقية في يناير حين قال كلمته لأول مرة في تاريخه دون وصاية من زعامة أو قصر أو جيش  !

كانت يونيو هي تلك اللحظة في التاريخ التي قرر فيها المصريون جميعاً أن يزيحوا من سمائهم كل تلك الغيوم، و أن يستعيدوا وعيهم الذي تم تغييبه على يد العديد من المنتفعين بذلك التغييب على اختلاف أهدافهم و تنوع رعاتهم و مموليهم !

كانت يونيو هي تلك اللحظة التي اتخذ فيها الشعب، كل الشعب، القرار بأن يستعيد وطنه الذي يعرفه، و أن يمسك من جديد بمقاليد الأمور التي استلبها منه بعد الثورة بقايا نظام مبارك ..

ذلك النظام الذي قد يظن البعض أنه يضم مبارك و أسرته و حاشيته المقربة فقط، بينما كان في الواقع منظومة متكاملة من المؤيدين له، و المستفيدين من فساده، و المستفيدين من قمعه، بل و دعني أؤكد أنه كان يشمل أيضاً المستفيدين من معارضته ليس لصالح الوطن و لكن لصالحهم هم فقط !

و يمكنك هنا اقتراح من تراه مناسباً ليشغل أحد مقاعد المستفيدين، و دعني أساعدك لأقترح عليك أعضاء الحكومات المتعاقبة، و رموز الحزب الوطني، و أباطرة الصناعة، و ملياديرات الأعمال، و حيتان الاستيلاء على أراضي الدولة، و الدعاة و الشيوخ و الدراويش الذين امتلأت الأسواق باسطوانات مواعظهم، و ازدحمت الفضائيات بأحاديثهم ليضمنوا بقاء الشعب مغيباً و بقاء عقله مغطى بملاءات الخرافة و البدع و التفسير الخاطئ و المسيس للنصوص ..

و القائمة هنا تمتد أيضاً لتشمل قادة الجماعات الأصولية المتشددة و الإخوان المسلمين الذين تم السماح لهم بممارسة أنشطتهم من داخل زنازينهم الفارهة، ليضموا المزيد من الأتباع و يقوموا بالاستيلاء على كل المنابر، بل و يتمتعوا بالحرية الكاملة دون رقيب في إدارة المليارات من الدولارات في أنشطة تجارية و صناعية تضمن تمويل منظماتهم، ناهيك عن السماح لأتباعهم، و منهم مرسي نفسه، بالفوز بمقاعد في مجلس الشعب في عدة دورات ليظهروا بمظهر المعارضة السياسية الوطنية مقابل الالتزام بعدم المساس باستقرار النظام !

و دعني أضيف لقائمتك هنا أيضاً عديد الصحفيين و الإعلاميين و المحللين السياسيين الذين كنت أصر طوال فترة حكم مبارك و في الأيام الأولى للثورة على عدم مصداقيتهم بينما كنت أنت و معظم المتابعين لهم تعدونهم من المعارضين الناقدين للنظام الذين لا هم لهم إلا صالح الوطن، بينما تكشفت فيما بعد و عبر ست سنوات من توالي سقوط الأقنعة، عديد الحقائق و الأحداث التي أثبتت كيف أنهم لا يتبعون إلا مصالحهم الشخصية، و لا يتفوهون إلا بما يريده من يدفع أكثر !

و لن أتنصل هنا من قناعتي منذ قيام الثورة في يناير، أن من سمح لكل أولئك أن يحيدوا بالثورة عن مسارها، و أن يستغلوا غضبة الشعب المصري ضد القمع و الفساد و الأحادية و الاحتكار في يناير، و من أدى بالأمور إلى أن تصل لنقطة الانفجار في يونيو لم يكن سوى الإدارة التي جانبها الصواب من جانب قادة المجلس العسكري الذي تولى السلطة في أعقاب الثورة ..
تلك القيادة التي و إن لم أشك لحظة واحدة في وطنيتها و عدم تفريطها في ذرة تراب واحدة من أرض مصر، إلا أنها فرطت في حقوق الشعب المصري حين التزمت الصمت تجاه فساد مبارك و حاشيته لثلاثة عقود متتالية، و فرطت مرةً أخرى في حقوق الشعب المصري بقبولها لتراجع مستوى منظومة تسليح الجيش المصري و انحسارها لتبقى محدودة في إطار ما تقدمه الولايات المتحدة على سبيل المعونة التي تمنحها حين الرضا و تمنعها حين يتطلب الأمر الرضوخ لتوازنات سياسية و إقليمية فرضتها تبعية نظام مبارك الكاملة لواشنطن و إن روج إعلامه بغير ذلك .. !
تلك القيادة التي سمحت بجنوح سفينة الثورة على شاطئ المؤامرات  حين تخاذلت في مواجهة من قفزوا على ثورة الشعب و أطلقت دون مبرر واضح سراح قادتهم بعد مرور أيام قلائل من تنحي مبارك ليجد من قاموا بالثورة ضد النظام بأكمله أنفسهم محاطين بمن كانوا جزءاً أصيلاً من المستفيدين من ذلك النظام أمثال الملياردير حسن مالك و رفيقه خيرت الشاطر الذين خرجا من السجن ليدخلوا ميدان التحرير و يعتلوا منصة الثوار وسط دهشة الجميع و في حراسة الشرطة العسكرية و بدعم من المجلس العسكري وكأنهم هم من ثار من أجل حقوق الشعب، بينما هم أبعد ما يكونون عن ذلك ..
و استمر التخاذل ليشمل السماح بأن يتولى المستشار البشري، وهو من عرف عنه انتمائه لفكر الإخوان، رئاسة لجنة تعديل الدستور، بل و أن يتم السماح لميليشيات الإخوان و السلفيين بالسيطرة على مشهد الاستفتاء فيكفرون من يعارض التعديل و يقومون بدور الكهنة الذين ينزهون المجلس عن الخطأ و يحكمون على من يعارضه بالخروج من عباءة الإسلام !
و استمر فيما بعد ليشمل التصديق على قانون انتخاب معيب و الدعوة لانتخابات برلمانية في ظل بيئة حزبية منقوصة يعلم الجميع أنها لن تفرز سوى برلمان يسيطر عليه الإخوان و من والاهم، ثم الدعوة لانتخابات رئاسية نعلم  جميعاً ما آلت إليه !

قد تجد نفسك و قد قررت ألا تكمل قراءة هذه السطور، بل و دعني أكون أكثر وضوحاً لأقول لك أنك بدأت جدياً في الشعور أن من كتب هذه السطور هو مجرد عميل آخر من مرتزقة التمويل المحرضين على الجيش و الكارهين لكل ما هو عسكري ..

و دعني أؤكد لك أنك على خطأ .. فمن كتب هذه السطور فقد صداقة و ود نصف رفاقه لأنه قرر النزول في يونيو للإطاحة بمن يرون أنه، بالرغم من كل ما يمثله من فاشية و ولاء لجماعته، كان رئيساً منتخباً ديمقراطياً، بينما فقدت معظم النصف الباقي في يونيو 2014 حين قررت اختيار السيسي لقيادة المرحلة الحالية عن قناعة لا يشوبها شك أنه الرجل الأنسب للمرحلة الأخطر من تاريخ مصر .. مرحلة تمثل الفارق بين الاستمرار كدولة ذات سيادة و تراب وطني موحد أو التحول إلى حالة من السيولة السياسية و العسكرية و الاجتماعية !

و لن أبالغ حين أقول أن حالتي أنا و رفاقي كانت في حقيقة الأمر حال كل بيت و كل أسرة و كل حارة في مصر .. ففي زاوية من المشهد الوطني، انقسم من هم على شاكلتي ممن يرون أن يونيو هي استمرار للمد الثوري الذي بدأ في يناير، بين اختيار صباحي و هو من قدم نفسه كمرشح للثورة بكل ما تعنيه من مبادئ الحرية و المساواة و العدالة الاجتماعية و رفض ضمني للعودة لحكم ذوي الخلفية عسكرية ، و بين السيسي و هو من استجاب لنداءاتهم في يونيو لإنقاذ سفينة الوطن من الغرق في غيابة بئر فاشية الحكم الديني، بالرغم من كل التحفظات على انتماء الرجل لمجلس طالما هتفوا ليرفع يده عن الحكم و مازالوا يطالبون بمحاسبته على الانتهاكات التي سجلت في عهده حتى تسليمه مقاليد الأمور لغير المأسوف على عزله.

بينما وجدنا في زاوية اخرى من المشهد المحتدم، اليساريون و القوميون و الاشتراكيون من أصحاب الصخب المعتاد و ادعاءات امتلاك الحقيقة المطلقة و هم بدورهم منقسمون بين اختيار صباحي المرشح اليساري التوجه، القومي النزعة، و بين السيسي الذي يرون أنه يمثل إعادة لنموذج أيقونة عبد الناصر الخالدة التي يمكنها التواصل مع الشعب و شحذ الهمم و إعادة هيبة الدولة و استعادة دورها الإقليمي و الدولي دون تبعية أو استكانة.

 
إلا أن من كانوا يشغلون المساحة الأكبر من المشهد بعد يونيو، و من صنعوا الفارق الحقيقي، كانوا أولئك المصريين البسطاء الذين لا يعنيهم من الأمر سوى أن هناك من أعاد لهم وطنهم الذي يعرفونه، و من خاطبهم بلغتهم التي اعتادوها، لا سيما و أن الرجل يرتدي الزي العسكري الذي طالما ارتبط في الوجدان المصري بالعزة و الكرامة الوطنية.

و لكن ما يعنيني حقيقةً في مشهد يونيو،  هم أولئك الذين لا تستطيع أن تلحظ لهم وجوداً لقلة عددهم و انحسار الأضواء عنهم بل و ترفعهم عن إثارة الصخب ليلتفت إليهم الجميع !
أولئك الذين أؤمن أنهم الأكثر صواباً، و الأكثر قدرة على تحليل الأمور و اتخاذ القرار الذي لا يصب إلا في إناء المصلحة العليا للوطن، و لا ينتقص بأي حال من حظوظ الثورة على المدى الطويل في بسط مبادئها رغماً عن الجميع.

هؤلاء الذين لم يعنيهم التقيد بشعارات جوفاء، أو التبعية لأيقونات واهية، أو الانتماء لأيديولوجيات جامدة، حتى و إن كان ذلك احياناً على حساب تراجع مؤقت للمسيرة الثورية، ليقينهم أنه و إن كانت الثورة في لحظة ما هي الوسيلة المثلى للتغيير، فهي ليست هدفاً بحد ذاتها.

هؤلاء ممن يظن المتابع الضحل لهم أنهم غير ثابتين على مبادئهم، فلقد رآهم يخرجون في يناير للمطالبة بالعيش و الحرية و العدالة الاجتماعية و مطالبين للجيش بمساندتهم، ثم رآهم بعدها و هم يطالبون بتنحي المجلس العسكري و إقامة الدولة المدنية و إرساء دعائم دولة القانون بدلاً من دولة البطش و الطوارئ، ثم رآهم في النهاية يخرجون بدهم من نفس الجيش على من قد يبدو رئيساً مدنياً منتخباً، بينما كان خروجهم ضد التفاف الإخوان على مبادئ الثورة و خيانتهم لثقة الملايين ممن أئتمنوهم على وطن لم يروه إلا لبنة ضمن أخريات في مشروع إعادة بناء الخلافة المزعوم.

هذه القلة التي لم تحيد عن مطلبها و هدفها في رؤية وطن موحد قوي ينعم فيه الجميع بالحرية و المساواة و الكرامة، و لكن الأهم أن يكون كل ذلك أولاً تحت راية واحدة و فوق تراب وطني موحد، و هو الهدف الذي يتطلب على المدى القصير وجود قيادة تمتلك الحد الأدنى لتحقيق ذلك ..
قيادة مدعومةَ بتاييد شعبي حقيقي ..
قيادة تمتلك الرؤية الاستراتيجية و القدرة على تحقيق التوازن الإقليمي و التواصل مع كافة القوى الكبرى لدعم مكانة مصر السياسية و الدبلوماسية و دعم القدرة العسكرية للجيش المصري للتعامل مع التهديدات الإقليمية ..
قيادة  تمتلك الحد الأدنى اللازم للتحكم في موارد و أجهزة الدولة دون إبطاء لإصلاح البنية التحتية التي تضمن عدم انهيار منظومة الاقتصاد بالكامل و تضمن بقاء ما يمكن البناء عليه لإصلاح تلك المنظومة ..
و أخيراً .. قيادة تمتلك القدر الكافي من الصرامة اللازمة لكبح جماح من سولت لهم أنفسهم استباحة الدماء و الأعراض و الملكيات العامة و الخاصة لكي لا نقع من جديد في فخ التخاذل و التوازنات فيضيع كل شيئ مرة أخرى!

قد يتوهم البعض أني، و من يوافقونني الرأي، نعطي بذلك الضوء الأخضر لمن تولى مقاليد الحكم ليفعل ما يشاء و أن يعود بالأمور لما قبل يناير، و لكني أؤكد لهؤلاء أنه و بالرغم من تأييدي و دعمي و قناعتي بحتمية يونيو و اختياري لهذه القيادة في المرحلة الآنية، فأنا على ثقة أن المصريين، بل و الرئيس نفسه، صاروا يمتلكون الحد الكافي من اليقظة للحيلولة دون إعادة تأليه الحاكم، و أني و من يتوافقون مع رؤيتي للأمور و من بذلوا الجهد الذي يستطيعون في صمت طوال السنوات الماضية بأموالهم و دمائهم و حناجرهم و أقلامهم، مصرون على  مواصلة العمل على تنمية الوعي السياسي و الإجتماعي و الثقافي للأمة و تعريف الجميع بحقوقهم التي صوتوا لدستور يمنحهم إياها ..

و الأهم من ذلك كله .. هو ثقتي في أن من خرجوا في يونيو لن يقبلوا إلا أن تكون هي الضمان أن يناير ستظل و بلا شك نقطة اللا عودة لما قبلها من قبول للقمع تحت ستار حفظ الامن، أو كبت الحريات تحت مظلة حماية الأمن القومي، أو تخوين المعارضة بحجة الحفاظ على وحدة الكلمة.

حفظ الله مصر .. و سدد على طريق الخير خطى أبنائها.